الخطبة الأولى:
وصية الله للمؤمنين في كل آن وحين تقواه سبحانه وتعالى إلى قيام الساعة ويوم الدين: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } [آل عمران : 102].
اخوة الإسلام والإيمان:
حب المصطفى صلى الله عليه وسلم نبض القلوب ونور العيون ودم العروق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين؛ ولأن حبه أساس في الإيمان والدين وقد وصفه وأثنى عليه ربه بقوله: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم : 4].
وبالنسبة لنا نحن أتباعه وأبناء أمته كان له علينا فضل خاص عظيم: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة : 128] ومن ثم انتصب لنا ونصبه الله جل وعلا لنا قدوة: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [الأحزاب : 21].
ومن هنا فإنه لا بد أن ندرك عظمة وتقديم هذا الإيمان برسولنا صلى الله عليه وسلم وحبه القلبي العاطفي وحبه العملي الاتباعي لأن الله جل وعلا قد ذكر ذلك في آيات مستفيضة ومنها قوله جل وعلا: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة : 24].
بل قد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، وقال أيضاً فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام: (حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين).
وبالنظر إخوة الإيمان إلى بعض الصور التي جسدت هذه المحبة القلبية وذلك الإجلال لمقام نبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم في بعض ما أثر عن أصحابه الذين كانوا أقرب الناس إليه وألصقهم به والذين عاشوا معه في حله وترحاله وفي حضره وسفره وفي سلمه وحربه، فهذا زيد بن الدثنة أحد القراء الذين بُعثوا لتعليم بعض العرب في وسط الجزيرة فغدروا بهم وجاء دوره ليقتل فقيل أتحب أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم مكانك وأنت آمن في أهلك؟ قال: "والله ما أحب أن يشاك محمد صلى الله عليه وسلم بشوكة وأنا آمن في أهلي". وإذا نظرنا إلى ما كان يأخذ به الصحابة ما جاء من الأوامر الربانية المتصلة بتوقير رسولنا صلى الله عليه وسلم لرأينا عجباً، فلما نزل قول الحق جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الحجرات : 2] اعتزل ثابت بن قيس وهو خطيب النبي صلى الله عليه وسلم وزعيم من زعماء الأنصار اعتزل مجلس النبي عليه الصلاة والسلام لم يعد يحضر، فسأل عنه النبي عليه الصلاة والسلام فبعثوا عنه وذهبوا إليه ما لك؟ قال: "إني امرؤ جهوري الصوت" صوته مرتفع بدون مكرفونات"وأخشى أن أجلس في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتكلم فيعلوا صوتي على صوته فيحبط عملي وأهلك"، هكذا كانوا ينظرون إلى الأوامر ليست على أنها أوامر عامة أو أنها يمكن أن تفسر هكذا أو هكذا، بل كانوا يأخذون بها على أعلى أنواع الدقة.
وروى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في أصبع رجل خاتم من ذهب فنزعه من يده وقال: (يعمد أحدكم إلى جمر من النار فيضعه في يده)، فلما انفض المجلس وقام الرسول عليه الصلاة والسلام والناس قال بعض الناس للرجل: "خذ خاتمك فانتفع به" بعه أو أعطه لزوجتك أو نحو ذلك، قال: "ما كنت لآخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وكان أول ما كان المنهج المهم هو أن يكونوا على ما علمهم وما رباهم عليه محمد صلى الله عليه وسلم، فلما كان الخبر مفجعاً محزننا طاشت بعض العقول وقال من قال: "ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وسيعود"، فقام أبو بكر رضي الله عنه وهو أقرب الناس وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند الوفاة كان في العوالي في السمح فجاء ودخل وكشف عن وجه النبي عليه الصلاة والسلام وقبّل وجهه وقال: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله طبت حياً وميتا"، ثم خرج للناس فقال: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، لا بد أن نثبت على ديننا وأن نعرف حقائقه وأن نجعل للرسول صلى الله عليه وسلم قدره ومقامه دون أن يخرج ذلك عن الحد المشروع.
وانظروا إلى موقف آخر يهمنا كثيراً لأننا نحتاج إلى مراجعة أنفسنا في هذا الأمر، لما كانت معركة اليمامة جاء عمر رضي الله عنه كما في صحيح البخاري إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: "إني رأيت القتل قد استحر بالقراء يوم اليمامة – أي بقراء القرآن – وإني أخشى أن يستحر بهم القتل في المواطن فأرى أن تجمع القرآن"، ولم يكن القرآن مجموعاً بين دفتين بل كان مكتوباً متفرقاً عند الصحابة فأي شيء قال أبو بكر؟ قال: "كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" نحن أمة اتباع، فقال عمر لأبي بكر: "والله إنه لخير" يعني هذا يحقق مقصداً من المقاصد الشرعية فما زال عمر بأبي بكر حتى شرح الله صدر أبي بكر للذي شرح له صدر عمر ولم يأت الشاهد بعد، الشاهد جاء عندما طلب أبو بكر زيد بن ثابت وكان شاباً من صغار الصحابة قال له: "إنك امرؤ عاقل لا نتهمك كنت تكتب الوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر ما كان من كتاب الله فاجمعه"، من الذي يتحدث؟ أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ومن معه؟ الفاروق عمر الوزير الأول! هما أكبر منه سناً وأقدم منه إسلاماً وأكثر منه تضحية لكن ذلك كله لم يمنعه أن يقول: "كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" لأن أمر الرسول واتباعه أعظم من كل أحد وأعظم من كل حاكم فقال قولته فما زال أبو بكر يشرح له حتى شرح الله صدره للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، والشاهد انظروا كيف كانوا يتوقفون في كل أمر حتى يعرفوا هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وهل له فيه سنة ثابتة أو عمل معروف أو ليس كذلك؟!
وتأملوا مقولة عبدالله بن عمر الصحابي الجليل الذي اشتهر بدقة متابعته برسول الله عليه الصلاة والسلام حتى كان إذا سافر ينيخ ناقته عند الشجرة التي أناخ النبي عندها ناقته مبالغة أو زيادة في هذا الاتباع وحرصاً عليه، يقول: "أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء".
لذلك نحن أمة محمد، ترجمان المحبة والإجلال أن لا نفعل شيئاً لم يثبت أنه من هديه ومن سنته عليه الصلاة والسلام، أن لا نخالف ذلك الهدي الأعظم والسنة الأرشد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجز فأبلغ فأحكم عندما قال: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" مردود على صاحبه لا يقبل.
جاء رجل إلى الإمام مالك إمام دار الهجرة وهو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: "من أين أحرم؟" قال له: "من أبيار علي" هذه الأماكن المعروفة، فمضى الرجل وهو يقول: "لأحرمن من مسجد النبي صلى الله عليه وسلم"، فقال الإمام مالك: "إنها والله الفتنة"، فسمع الرجل ورجع: "أي فتنة يا أبا عبدالله، إنما هي أميال أتزيدها أبتغي بها أجر الله" ستكون المسافة أطول ويكون الأجر أكثر، قال: "الفتنة أن تعمل عملاً تظن فيه أنك خير أو أن أجره خير مما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم".
الاتباع حذو القذة بالقذة: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } [آل عمران : 31]، وهذا الاتباع كان أمراً في غاية الأهمية في حياة أمتنا الإسلامية؛ لأننا لدينا كلمة واحدة هي كلمة الإيمان والإسلام العظمى "لا إله إلا الله محمد رسول الله""لا إله إلا الله لا معبود بحق إلا الله""لا خوف إلا من الله""لا رجاء إلا في الله""لا شرع إلا شرع الله" وأن محمد رسول الله لا يوصل إلى رضوان الله ولا يوصل إلى مرضاة الله وطاعة الله إلا هدي محمد صلى الله عليه وسلم ومن ابتغى طريقاً إلى رضوان الله غير طريق محمد عليه الصلاة والسلام فإنه لن يصل وسيكون قد زاغ عن النهج وانحرف عن السنة وخاض في أبواب من البدع والانحراف تجعل عمله مردوداً عليه وإن اجتهد وجد وعمل؛ لأن الأمر مقيد بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا تأملنا فإننا نجد الأمر في الإجلال كذلك: { لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً } [النور : 63] لا بد من توقير الرسول عليه الصلاة والسلام بعد وفاته، وفي مسجده في عهد الفاروق عمر دخل المسجد فسمع اثنان أصواتهما مرتفعة بجوار قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أين أنتما؟" قالا: من الطائف، قال: "لو كنتما من المدينة لأوجعتكما ضرباً، أترفعان أصواتكما بجوار قبر رسول الله عليه الصلاة والسلام" الأدب مستمر والتوقير والإجلال والتعظيم على نحو مشروع؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانت لهم مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في كل هذه الآفاق أمور عظيمة.
ولعلي هنا أؤكد على ما نحتاج إليه فنحن نحتاج إلى صدق هذه المحبة المتمثلة في العاطفة والإجلال والتوقير وتعظيم رسولنا صلى الله عليه وسلم ونحتاج إلى محبة الاتباع التي هي ترسّم سنته واقتفاء أثره والسير على هديه ونهجه دون مخالفة ولا انحراف، ومحبة نشر علمه ونشر سنته فقد صحّ أن جابر بن عبدالله رضي الله عنه خرج من المدينة إلى مصر انظروا المسافة وانظروا ماذا كانت عليه المواصلات في ذلك الوقت، ما الذي أراد من هذا السفر؟ ذهب إلى مصر حتى وصل إلى أحد الصحابة وهو عقبة بن نافع رضي الله عنه فسأله عن حديث واحد أراد أن يتأكد؛ لأن هذا الصحابي هو الذي سمعه، فأخبره بالحديث فرجع من وقته؛ لأن هذا الجهد في طلب سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفتها كان بالنسبة لهم يستحق أن يُبذل.
ونحن السنة اليوم بين أيدينا مطبوعة ومسموعة لا نكاد نقرأ أحاديثه، لا نكاد نقرأ سيرته كاملة، لا نكاد ننظر إلى معالم هديه في كل جوانب الحياة، في البيع والشراء، في الزواج والطلاق، مع الأبناء، مع الأصدقاء ، مع الأعداء في كل جوانب الحياة هديه متكامل وعظيم.
فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا وإياكم إلى دينه رداً جميلا وأن يجعلنا بكتابه مستمسكين وبهدي نبيه صلى الله عليه وسلم متبعين ولآثار السلف الصالح مقتفين.